الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل
.تفسير الآيات (29- 31): القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [29- 31].{ثُمَّ} أي: بعد الذبح: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي: ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام، بالحلق والتقصير وقصّ الأظفار ولبس الثياب: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي: ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: طواف الإفاضة. وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج. ويقع به تمام التحلل. والعتيق: القديم. لأنه أول بيت وضع للناس. أو المعتق من تسلط الجبابرة: {ذَلِكَ} خبر محذوف. أي: الأمر ذلك. وهو وأمثاله من أسماء الإشارة، تطلق للفصل بين الكلامين، أو بين وجهي كلام واحد.قال الشهاب: والمشهور في الفصل هَذَا كقوله: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55]، واختيار ذلك هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته. وهو من الاقتضاب القريب من التخلص، لملائمة ما بعده لما قبله، كما هنا: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي: أحكامه. أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك. والحرمات جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه، بل يحترم شرعاً: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي: ثواباً. وخير اسم تفضيل حذف متعلقه. أي: من غيره، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره، قاله الشهاب. والثاني هو الأظهر، لأنه أسلوب التنزيل في موضع لا يظهر التفاضل فيها. وإيثاره، مع ذلك، لرقة لفظه، وجمعه بين الحسن والروعة: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي: آية تحريمه. وذلك قوله في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، والمعنى: أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها، إلا ما استثناه في كتابه. فحافظوا على حدوده. وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئاً. كتحريم عَبْدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك. وأن تحلوا مما حرم الله. كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك. أفاده الزمخشري.{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى. فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى. ومن بيانية. أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس. وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها. قال الزمخشري: سمى الأوثان رجساً وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعني أنكم، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب. وقوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} تعميم بعد تخصيص. فإن عبادة الأوثان رأس الزور. كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه ذلك، ردّاً لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب. وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، وإعلاماً بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه، وصدق القول، أعظم الحرمات وأسبقها خطواً: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل إلى الحق: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي: شيئاً من الأشياء. ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى، فقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي: سقط منها فقطعته الطيور في الهواء: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي: تقدمه: {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي: بعيد مهلك لمن هوى فيه. وأو للتخيير أو التنويع. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق. فإن كان تشبيهاً مركباً، فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده نهاية. بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرَّ من السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعاً في حواصلها. أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرقاً، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله، بالساقط من السماء. والأهواء التي تتوزع أفكاره، بالطير المختطفة. والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. فكتب الناصر عليه: أما على تقدير أن يكون مفرّقاً فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء، إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الإشراك المراد رِِدَّتَه، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليًّا، فيكون قد عدّ تمكن المشرك من الإيمان ومن العلوّ به ثم عدوله عنه اختياراً، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط، ولكن كانوا متمكنين منه. وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر، بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق- نظر. لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين. فإذا جعل الأول مثلاً لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلاً لنزغ الشيطان فقد جعلهما شيئاً واحداً. لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء، مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود. والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك. فنقول: لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما: المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة. فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب. لا يلوح له خيال إلا اتّبعه ونزل عما كان عليه. والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل. لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع. لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج بضلالته.فهذا مشبه في إقراره على كفره، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقرّ فيه. ويظهر تشبيه بالاستقرار في الوادي السحيق، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3]، و{ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً} [النساء: 167]، أي: صمموا على ضلالهم فبَعُد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم. انتهى كلامه.ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغاً له. إلا أنه لا قاطع به. نعم، هو من بديع الاستنباط، ورقيق الاستخراج. فرحم الله ناسخه.قال ابن كثير: وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام. وهو قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71] الآية..تفسير الآية رقم (32): القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [32].{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي: علائم هدايته، وهو الدين. أو معالم الحج ومناسكه. أو الهدايا خاصة، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى. كما تنبئ عنه آية: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [36]، وهو الأوفق لما بعده. وتعظيمُها أن يختارها عظام الأجرام حساناً سماناً، غالية الأثمان. ويترك المكاس في شرائها. فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن: الهدي والأضحية والرقبة.وعن سهل: كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون. رواه البخاريّ.وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين. رواه البخاريّ.وعن البراء مرفوعاً: «أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والكسيرة التي لا تُنْقِي» رواه أحمد وأهل السنن {فَإِنَّهَا} أي: فإن تعظيمها: {مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي: من أفعال ذوي التقوى. والإضافة إلى القلوب، لأن التقوى وضدها تنشأ منها..تفسير الآية رقم (33): القول في تأويل قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [33].{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: لكم في الهدايا منافع دَرّها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها. وقد روي في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال: «اركبها». قال: إنها بدنة قال: «اركبها ويحك. في الثانية أو الثالثة». وقوله: {ثُمَّ مَحلُّهَا} أي: محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وقال: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].قال في الإكليل: فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم. وقيل: المعنى: محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق. فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة. يحل له كل شيء. وكذا روي عن ابن عباس: ما طاف أحد بالبيت إلا حل، لهذه الآية. وقوله تعالى:.تفسير الآية رقم (34): القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [34].{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}. أي: شرعنا لكل أمة أن ينسكوا. أي: يذبحوا لوجهه تعالى، على وجه التقرب. وجعل العلة، أن يذكر اسمه. تقدست أسماؤه. على النسائك. فمنسكاً مصدر ميميّ على أصله. أو بمعنى المفعول. وفي الآية تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعماً.{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي: أخلصوا له الذكر خاصة، لا تشوبوه بإشراك {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}..تفسير الآيات (35- 36): القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [35- 36].{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خافت لتأثرهم عند ذكره مزيد تأثر: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا} أي: في ذبحها تضحية: {خَيْرٌ} من المنافع الدينية والدنيوية: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن. وعن ابن عباس: قياماً على ثلاث قوائم، معقولة يدها اليسرة. يقول: بسم الله، والله أكبر، لا إله إلا الله: اللهم منك ولك. وفي الصحيحين عن ابن عمر، أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها. فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع، قال فيه: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة. جعل يطعنها بحربة في يده: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي: سقطت على الأرض، وهو كناية عن الموت: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} أي: السائل: {وَالْمُعْتَرَّ} أي: المتعرض بغير سؤال. أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال، والمعتر المتعرض بسؤال وقد استنبط أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فيأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث.{كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: ذللناها لكم، لتشكروا إنعامنا، والشكر صرف العبد ما أنعم عليه، إلى ما خلق لأجله..تفسير الآية رقم (37): القول في تأويل قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [37].{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي: لن يصيب رضاءه لحومها المتصدق بها، ولا دماؤها المهراقة، من حيث إنها لحوم ودماء. ولكن بمراعاة النية والإخلاص، ابتغاء وجهه الأعلى، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177]، إلى آخرها: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: لتعرفوا عظمته فتوحدوه بالعبادة على ما أرشدكم إلى طريق تسخيرها، وكيفية التقرب بها على لسان أكرم رسله المبعوث بسعادة الدارين. وإنما كرره تذكيراً للنعمة وتعليلاً بما بعده. وفي التعليل المذكور شاهد لما قدمناه أولاً في معنى قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [28]، فتذكر. وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} أي: المخلصين في أعمالهم..تفسير الآية رقم (38): القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [38].{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} كلام مستأنف، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه. كذا قاله أبو السعود. وسبقه الرازي إليه. والأوْلى أن يقال: إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين. تشجيعاً لهم على قتال من ظلمهم، وتشويقاً إلى استخلاص بيته الحرام، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي: في أمانة الله: {كَفُورٍ} أي: لنعمته بعبادته غيره، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم. وصيغة المبالغة فيهما، لأنه في حق المشركين، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيراً، بل هو أمر عظيم..تفسير الآيات (39- 40): القول في تأويل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [39- 40].{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أي: يقاتلهم المشركون. والمأذون فيه محذوف، لدلالة المذكور عليه. وقرئ بكسر التاء {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أي: بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين، لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59]، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم.{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} أي: لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها.قال ابن جرير: ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم. كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق. ونحو ذلك. وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض. لولا ذلك لتظالموا. فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم، وما سمى جل ثناؤه. والصوامع: مباني الرهبانية لخلوتهم. والبيع: معابد النصارى. والصلوات: روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود. سميت بها لأنها محلها. وقيل هي بمعناها الحقيقي. وهدمت: بمعنى عطلت. أو فيه مضاف مقدر: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي: ينصر دينه وأولياءه.قال القاضي: وقد أنجز الله وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
|